الفوائد العشرة ... لمن غض بصره
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد الله رب العالمين , والصلاة والسلام على عبد
الله ورسوله , وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه ,
نبينا محمد بن عبدالله , وعلى آله وأصحابه والتابعين
0
أما بعد :
لله در الشاعر إذ يقول :
كم من نظرة فتكت في قلب صاحبها ***** فتك السهام
بغير قوس ولا وترِ
يســـــر مــقلتـه مــــــاضر مهجتـــــه ***** لا
خير بســرور جـــاء بالضــرر
1) امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في
معاشه ومعاده ، وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من
امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى ، وما سعد من سعد في
الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامره ، وما شقي من شقي
في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره .
2) يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه
هلاكه إلى قلبه .
3) أنه يورث القلب أنسا بالله وجمعية على الله ، فإن
إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ، ويبعده من الله ،
وليس على العبد شيء أضر من إطلاق البصر فإنه يوقع
الوحشة بين العبد وبين ربه .
4) يقوي القلب ويفرحه ، كما أن إطلاق البصر يضعفه
ويحزنه .
5) أنه يكسب القلب نورا كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة ،
ولهذا ذكر الله آية النور عقيب الأمر بغض البصر ،
فقال : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا
فروجهم ) ، ثم قال اثر ذلك : ( الله نور السماوات
والأرض ، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ) ، أي مثل
نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب
نواهيه ، وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه
من كل جانب ، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء
والشر عليه من كل مكان ، فما شئت من بدعة وضلالة
واتباع هوى ، واجتناب هدى ، وإعراض عن أسباب السعادة
واشتغال بأسباب الشقاوة ، فإن ذلك إنما يكشفه له
النور الذي في القلب ، فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه
كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام .
6) أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين
المحق والمبطل ، والصادق والكاذب ، وكان شاه بن شجاع
الكرماني يقول : من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه
بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن
الشهوات ، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة ؛
وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة .
7) أنه يورث القلب ثباتا وشجاعة وقوة ، ويجمع الله
له بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقور ،
كما في الأثر : " الذي يخالف هواه يفر الشيطان من
ظله " ، وضد هذا تجده في المتبع هواه من ذل النفس
ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها ، وما جعل الله
سبحانه فيمن عصاه ، كما قال الحسن : " إنهم وإن
طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين ، فإن ذل
المعصية لا يفارق رقابهم ، أبى الله إلا أن يذل من
عصاه " ، وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته والذل
قرين معصيته ، فقال تعالى : ( ولله العزة ولرسوله
وللمؤمنين ) ، وقال تعالى : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا
وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) ، والإيمان قول وعمل
، ظاهر وباطن ، وقال تعالى : ( من كان يريد العزة
فلله العزة جميعا ، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل
الصالح يرفعه ) ، أي من كان يريد العزة فليطلبها
بطاعة الله وذكره من الكلم الطيب والعمل الصالح ،
وفي دعاء القنوت : " إنه لا يذل من واليت ولا يعز من
عاديت " ، ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه، وله
من العز سب طاعته ، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه
فيه ، وعليه من الذل بحسب معصيته .
أنه يسد على الشيطان مدخله من القلب ، فإنه يدخل
مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء
في المكان الخالي ، فيمثل له صورة المنظور غليه
ويزينها ، ويجعلها صنما يعكف عليه القلب ، ثم يعده
ويمنيه ويوقد على القلب نار الشهوة ، ويلقي عليه حطب
المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة ،
فيصير القلب في اللهب ، فمن ذلك تلد الأنفاس التي
يجد فيها وهج النار ، وتلك الزفرات والحرقات ، فإن
القلب قد أحاطت به النيران من كل جانب ، فهو وسطها
كالشاة في وسط التنور ، ولهذا كانت عقوبة أصحاب
الشهوات بالصور المحرمة : أن جعل لهم في البرزخ
تنوراُ من نار ، وأودعت أرواحهم فيه إلى حشر أجسادهم
، أراها الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في المنام
في الحديث المتفق على صحته .
9) أنه يفرغ القلب للتفكر في مصالحه والاشتغال بها ،
وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول بينه وبينها
فتنفرط عليه أموره ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن
ذكر ربه ، قال تعالى : ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن
ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ) ، وإطلاق النظر
يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه .
10) أن بين العين والقلب منفذا أو طريقا يوجب اشتغال
أحدهما بما يشغل به الآخر ، يصلح بصلاحه ويفسد
بفساده ، فإذا فسد القلب فسد النظر ، وإذا فسد النظر
فسد القلب ، وكذلك في جانب الصلاح ، فإذا خربت العين
وفسدت خرب القلب وفسد ، وصار كالمزبلة التي هي محل
النجاسات والقاذورات والأوساخ ، فلا يصلح لسكنى
معرفة الله ومحبته والإنابة إليه ، والأنس به ،
والسرور بقربه ، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك .
المرجع : الجواب الكافي
للإمام : ابن القيِّم بن الجوزيه
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يغضون
من أبصارهم 000
هذا وآخر دعوانا أن الحمدالله رب العالمين